رحلة بديلة لرحلة الحياة-مقال

رحلة بديلة لرحلة الحياة
 مقال بقلم / عبده عبد ا لجواد

 إنها الحياة تلك الرحلة التي يعيشها الانسان بين الأمل والألم ..الصحة والمرض. الشهرة والاهمال .. الغِنَى والفقر.. الحرية والسجن ، وما حُسْنَها ولا مساوئها إلا ابتلاء وتمحيص لقوة الصبر والايمان بالله ،وليعرف قيمة ما يملك من نعم الله ، فقد خُلِقَ في الوجود وحٌمِل أمانة العقل ليختار بين الخير والشر. بين أن يعبد الله ويعصاه ..ليختار مأكله وملبسه ومشربه وعمله وغيرها من أسباب وجوده ،رُزِِقَ الابتلاء ليؤمن فكفر ..رزق العقل ليختار به أسباب وجوده فاختار العدم! أقحم الانسان عقله بمنطقياته وواقعيته وماديته-بديلا لقلبه فضل الطريق ، ولم يؤمن بالغيب وقدرة الله على تغيير كل واقع الحياة بين طرفة عين وانتباه ،وفى النهاية كانت الفاجعة واختار عقله الرحلة البديلة لرحلة الحياة والتي قد لا تستغرق سوى لحظات قليلة يقضيها مترنحاً في الهواء قبل أن يرتطم بالأرض قتيلا أو بطلقة رصاص أو جرعة سم أو حبل حول رقبته وغيرها من سبل تدمير ذاته! 
شاب يدعى- نادر محمد جميل(23 عام) خريج كلية الهندسة جامعة حلوان بالقاهرة بتقدير جيد جداً -ينتحر من أعلى برج القاهرة مساء يوم 30 نوفمبر 2019 الماضي، ورغم أنه ( نادر)و( محمد) و( جميل) إلا أنه تخلى عن ندرته وإسلامه وجماله وتفوقه العلمى،وفضل أن يغادر الحياة برحلة طولها 187متر لا تستغرق سوى بضع دقائق ظن فيها الراحة من الاكتئاب ،وظنها البديل الأفضل لرحلة الحياة فسقط ولقى حتفه . 
وفى لبنان انتحر رجل -يدعى ناجى الفليطى (45 عام)بشنق نفسه لعجزه عن شراء (منقوشة زعتر) لابنته وهى نوع من المعجنات بالزعتر مثل الباتيه أو الكرواسون وسعرها نصف دولار- ذلك المبلغ التافه فقط - في نظر أي مواطن أمريكي مثلا - لكن لو علمنا أن النصف دولار يعادل 1000 ليرة لبنانية ربما نُعَايش احساسه كأب تطلب منه ابنته طلباً تافهاً ولكنه بعملته يعادل ألف! ، 
وفى شهر فبراير من نفس هذا العام 2019 انتحر رجل لبناني آخر-يدعى جورج زريق (50 عام) لضيق أحواله المادية وعدم قدرته على سداد مصروفات المدرسة لابنته والتي تعادل أيضا دولارات زهيدة ،فذهب إلى أحد جوانب فناء المدرسة وأشعل النار في نفسه ! غادرا الحياة شاكين الى الله ظلم من ادار البلاد وملأ عيون العباد بالسواد بعد ان دُمِرَ الاقتصاد وصار ما بيدهم من مال لا يساوى شيئا وشعرا أنهما أيضا كبشر لم يعد لهم قيمة! 
وبالبحث في السجل التاريخي لشخصية المنتحرين بعيداً عن هؤلاء المجهولين الفقراء وجدنا مشاهير قادة السياسة كهتلر ( 56 عام)، ومشاهير الأدب والفكر كأرنست هيمنجواي(62 عام) الحاصل على نوبل ، ووجدنا الأغنياء كأمير الأسرة المالكة البريطانية(35 عام) ،ووجدنا كل أهل الديانات والعقائد كما وجدنا الراهبة البوذية ،وجدنا الأسير السجين وكذلك الحر الطليق ،وجدنا المتوسط العلم وأكبر العلماء والأطباء والفلاسفة ،ووجدنا رجل السياسة و الشاعر والطبيب والفيلسوف والرسام والممثل.. ووجدنا الشاب والعجوز ! 
فليست الظروف الاقتصادية والفقر هي السبب الرئيس حيث توجد معدلات مرتفعة للانتحار في البلدان المرتفعة الدخل للأفراد، وليس عدم الشهرة أو القيمة الاجتماعية، وليس مستوى الثقافة والتعليم، وليس الايمان بعقيدة أو الكفر والالحاد، وليست الحرية أو السجن. وليس طيش الشباب ولا يأس الشيخوخة ..كل هذه العوامل والظروف ونقيضها في حالات الانتحار! 
وحقيقة الأمر -وبعيدا عن الأمراض العقلية -تكمن الأسباب في فقدان الأمل واليأس والاحباط وعدم القدرة على التكيف مع الواقع والتصدي للأزمات التي أغلبها مادية ونفسية .. فقد يصير الغنى فقيراً والشهير مجهولاً والصحيح مريضاً لا يغادر الفراش، وقد يفقد حريته ويُسْجَن ظُلْمَا بلا جريمة! ولم تتسم الحياة بتلك المتناقضات ليختار الانسان مغادرتها بقرار منه، فالحياة هبة من الله بجسد من صنع الله وبث فيه الروح بقدرته وبالتالي فقرار- وجوده وموته- فقط ملك خالص لله عز وجل . 
والآن بعد أن أختار المغادرون طريقهم وحددوا رحلتهم البديلة بعقلهم ومنطقياته المادية الذى لا يرى سوى الواقع بيأسه واحباطه، ولم يوقظ البلاء الايمان في قلوبهم، وتركوا الحياة التي وهبها الله لهم ..الآن تحولت القضية لقاضى السماء والوجود كله- ليحكم فيها فهو وحده الذى يعلم من كان مريضاً نفسياً أو مريضاً بالاكتئاب ومن كان عاقلاً أو مجنوناً ،ومن سيعذب بوسيلة انتحاره يوم القيامة ومن سيعفو الله عنه ..سبحانه-هو وحده-أعلم بهم جميعا . 
عبده عبد الجواد-بورسعيد-مصر
 #رحلة_بديلة_لرحلة_الحياة

تعليقات