فوق السحاب- قصة قصيرة

فوق السحاب- قصة قصيرة
الطريق كما هو- نفس الطريق .. طريق الجامعة سرت فيه لسنوات حتى تخرجت وحصلت على البكالوريوس
 أو كما كانت تسميها امى وجارتنا فى دعائهما لى " الشهادة الكبيرة" وجاورت تلك الشهادة ماسبقها من شهادات مدرسية أدراج مكتبى.. تشهد بتفوقى والتزامى بالعهد مع أبى .
وصرت خلف عجلة القيادة لتاكسى أو عملى الحالى (المؤقت) لحين أجد العمل المناسب.. هذا ماأقترحته على أبى حين فاجأنى يوما بظرف به آلاف من الجنيهات وقال:" لقد وفيت بوعدك وتخرجت بتفوق وأنت ابنى الكبير ، وأنا لم أعد أرجو من الحياة شيئاً .. لقد بعت منزلا قديما ورثته عن أمى هو كل ماأملك ..لو عشت سأعوض أخوتك عن حقهم فيه ، واذا مت فتولى أمرهم وساعدهم عوضا عنى وكُنْ لهم الأب والأخ "
لمحت عيونهما من مرآتى يتهامسان.. شاب وفتاة يركبان معى لتوصيلهما للجامعة ..ابتسامات الأمل والحب تنبعث من عيونهما بينما صوت عبد الوهاب يطغى على صوتهما فلا أسمعه " وكل ده وانت مش دارى .. ياناسينى وأنا جنبك " .. كانت نظراتهما المتبادلة وكلماتهما التى لاأسمعهما تعكس اندماجهما مع كلمات الأغنية.
كان وجه الشاب ورفيقته مألوفا بالنسبة لى .. ربما ركبا معى من قبل فطريقى هو الجامعة كل يوم .
- انتبهت فجاة على صوت الشاب : " لماذا دائما فى الموقف ينادونك بالأستاذ.. هو انت مدرس؟"..
قلت: " لا .. مهندس!" تغير وجهه هو ورفيقته ..
-عاد يسأل :" يعنى انت خريج الكلية التى نذهب إليها كل يوم ؟ ..
قلت: "هو انتم فى كلية هندسة ؟" .. أومأ برأسه بأَسَىَ ، وعَمّنَا الصمت!
كان لابد لى ان أختار لقد وضع أبى كل ثروته فى يدى وخيّرنى .. "هذه مكافأتك .. تصرف فيها كما تشاء.."
وبقيت أياماً حائراً بين طلب حبيبتى التى باغتتنى بضرورة الاسراع بالتقدم لها لأن أهلها يفرضون عليها شخصاً تقدم لخطبتها ، وبين شعورى بأن أبى أودعنى أمانة .. فقد فرح لتخرجى بتفوق وأعطانى كل مايملك .. وقد أحيل للمعاش من وظيفته ،ولم يعد يمتلك سوى معاشه ..ماذا لو خطبتها بهذه الجنيهات .. وماذا بعد؟ 
كيف سيكتمل الزواج ؟ ..هى لايمكنها الانتظار،وأنا لايمكننى التفكير فى نفسى فقط ..!
كانت كلمات أبى اللحظة الفارقة فى حياتى ..أحبها .. نعم، وعيونها التى تملأ نظراتها خيالى كتلك الحالمة التى أراها فى مرآتى ، وصوتها الهامس وكأننى أسمعه ..أما أنا فنظرات عيونى وأفكارى الآن ليست كذلك العاشق الذى أراه فى مرآتى ،يوما ما كنت مثله ..لطالما سِرْنا معا ًفى هذا الطريق.. لطالما ضمتنا أسوار الجامعة .. وأشجار حديقتها المحفور عليها حروف أسمائنا وسط القلوب المتعانقة .. مازلت أذكر يوم عاتبتنى نظراتها .. كيف تكتب حرفاً واحداً فقط ؟ قلت: "انه نفس الحرف الذى يبدأ به اسمينا ويضمنا فلماذا نُفّرِقُهُ ونُكّرره ..ألسنا شيئاً واحداً..حرفا واحداً.. قلبا واحداً "!
 - باغتنى الشاب بالسؤال " لماذا تعمل سائقاً هل بحثت عن عمل ولم تجد ؟"..
فكرت قليلا.. حاولت التخلى عن صراحتى المؤلمة .. قلت: "مؤكد يوجد عمل ولكنى لم أعثر على مكان مناسب.. هى فترة مؤقتة"!
واكتفيت بتلك الاجابة المقتضبة لأبعث الأمل فى نفسه، وبقيت مرآتى قاسمنا المشترك أراقب عيونه القلقة-فقد شعربأننى أطمئنه على غير الحقيقة ،وظل يراقب عيونى الهاربة من استمرار الحديث!
هربت بعيونى وحديثى وأفكارى الى داخلى ..دقائق .. انتهى الطريق ..غادرا سيارتى ،وذهبا الى الجامعة
بينما استمر حديث ذاتى .. لقد تزوجت حبيبتى.. وبعد سنوات مات أبى ثم أمى وكبرت أخوتى .. انطوت السنوات سريعاً وصارالواقع (المؤقت) واقعاً دائماً،ولم أجد وظيفة حيث جميع اعلانات الشركات يطلبون سنوات خبرة !
وصرت لأخوتى الأب والأخ،وصارت آلام الواقع أمراً اعتياديا وأتحمله ،واستمر تفوقى فى صراعى مع الأيام ومع ذاتى- بالصبر والالتزام بأخلاقى التى تربيت عليها فاستمر المنادى فى المحطة يلقبنى " بالاستاذ" ،وبعض الركاب المبالغون فى الاحترام ينادوننى : ياباشمهندس .. بينما كان وقعها فى اذنى مثل: "ياأسطى" .. لافرق!
وبقيت همسات دعائى أقتسمها بين والديىّ بالرحمة ، ولنفسى أن يعيننى على حالى ويعوضنى، ولحبيبتى بالسعادة
وبقيت كلمات رسالة لم أرسلها إليها ولا الورود ، فقد ذبلت ورودى وبقيت حروف رسالتى " لقد تصارع عقلى وقلبى ، ولكل صراع ضحايا.. أنا قبلكِ أول الضحايا.. تفرقنا ولم تتفرق أرواحنا، وتناثرت حروفنا ولم يُقّدَر لنا ولها أن تسمو فوق السحاب" .
تم نشر القصة على مقال كلاود
على الرابط :https://www.makalcloud.com/post/ihdwk5jrr
فوق-السحاب-قصص-روائع-الفكر-عبده-عبد-الجواد

تعليقات