بينما كان يعرض على الشاشة الفيلم السوري القديم"
الحدود" الذي تناولها ساخرا دريد لحام بشخص ينتمي لشرقستان ويريد الذهاب الى
غربستان وعندما ضاعت مستندات هويته الشخصية بقي على المنطقة الفاصلة حيث بوابات
الحدود والاسلاك الشائكة، فصار كحال الأمة غريبا بلا هوية، ولايستطيع حتى دخول وطنه!!
وقبله كان المذيع اللامع/ احمد الشقيري في خواطره يتحدث
عن الحدود مقارنا بين الدول الاوربية والعربية وأعطى مثالا بالحدود بين بلجيكا
وهولندا والتي كانت عبارة عن بلاطة رخامية ملونة عن يمينها بلاطة مكتوب عليها بالإنجليزية
حرف "بي" وعلى الأخرى حرف "إن إل " - كرمز للبلدين، وذلك دون
أي أسلاك او بوابات حدودية أو حراسة أمنية أو أسوار كتلك التي بين بلداننا العربية!!
فاستَحْضَرت ذاكرتي مشهدا لا يُنسَى على الحدود المصرية
الإسرائيلية منذ سنوات طويلة لأم وأبنائها الصغار تقف أمام السلك الشائك الحدودي
وتتبادل الحديث -من خلال مكبرات صوت- مع زوجها في منطقة رفح الفلسطينية المحتلة ،
وعندما سألتها عن حكايتها قالت: أن منزلهم هنا وورشة زوجها في الجانب الآخر وعندما
عقدت معاهدة السلام طلب منهم الاختيار، ومزق
السلك الشائك أوصال الأسرة ولكى يلتقوا يستخرج الزوج جواز سفر وإجراءات ويذهب
بالمواصلات أكثرمن مائة كيلو ذهابا وعودة وينتظر بوابة الحدود برفح المصرية حتى
تفتح فيعود اليهم للزيارة لأيام قليلة ، بالرغم أنهم يرون بعضهم على مسافة خمسين
مترا.. تلك هي الحدود القاسية!!
ونعود الى أصل القضية " الحدود" هل هي فقط شيء
ترتبط بالاستعمار كما يرى الكبار؟ وهل يستحق وجودها كل هذه السخرية والألم؟
عبر العصور يظل حوار الأجيال في شبه صراع لا ينتهي فجيل
الآباء والأجداد مازال يحلم بوطن بلا حدود ومازال يتغنى بحلم القومية والوحدة
العربية ولابد أن تزول الحدود لأنها من صنع الاستعمار، اما جيل الأبناء فقد مَلّ
كثيرا من هذه النغمة خصوصا وهو يرى حصول الأجنبي على تأشيرة دخول لأحد الدول
العربية أسهل بكثير من دخول العربي، ويرى أنه حتى لو حصل على التأشيرة فهي بشروط
تحددها كل دولة كالكفيل مثلا ، ويرى الصراعات على الحدود والثروات، فقد تقاتلت
العراق وايران لثماني سنوات ، واحتلت العراق الكويت ، فالقضية ليست في الحدود في
حد ذاتها فلكل دول العالم حدود ، وليست كل الحدود على النموذج الذى ذكره الشقيري فماذا
عن سور الصين العظيم والحدود بين فرنسا وألمانيا، وسور برلين السابق الذى كان بين
شطري المانيا قبل اتحادهما ، ولكن الموضوع ببساطة أن تقسيم الحدود بين كل دول
العالم تم باستغلال الظواهر الجغرافية
الطبيعية كالجبال والأنهار مثل جبال الهيمالايا بين الصين والهند وجبال الانديز
بين تشيلي والأرجنتين أو بعمل حدود واضحة المعالم وحتى لو حدث خلاف كما حدث بين
بريطانيا والأرجنتين حول جزر فوكلاند فالحرب محدودة المدة والخسائر (74 يوم فقط)،
أما التقسيم الاستعماري في العالم العربي فقد كان مخططا بأن يكون هلاميا غير واضح
المعالم، ولايخفى على أحد الخلافات بين كل الدول على الحدود : مصر والسودان-
العراق والكويت-
السعودية وقطر والبحرين- الامارات وإيران و.و.!!
ولكن هل يمكن أن نعيش حياة بدون حدود ولاقيود؟ وهل الحدود
على اطلاقها شيئاً سيئاً ويجب أن نتخلص منها؟
طبعا لا.. فالحدود ليست فقط الحدود الجغرافية الطبيعية
كما بكل بلاد العالم أو الحدود الصناعية كما في بلادنا ، ولكن معنى الحدود واسع فهناك
حدود الله: أي أوامره ونواهيه والتي أٌمِرْنا ألا نقربها " تلك حدود الله
فلاتقربوها" ، وهناك حدود الأدب واللياقة والتي يُلزِم الله ثم قيم المجتمع
الناس جميعا بالالتزام بها " فسباب المسلم لأخيه فسوق وقتاله كفر"
،" وهناك الدماء وحرمتها أول ما يقضى الله فيها يوم القيامة" ، وهناك
حدود الإسلام كحد الزنا وحد الحرابة وحد القذف وغيرها والتي تكرم بنى آدم وتحفظ
الحقوق بين الناس في المجتمع فلابد من عقاب لأي متعد للحدود لضمان أمن المجتمع ككل
، وهناك حدود القانون التي تنظم الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع والتي ان لم
تطبق على الجميع سواسية بعدل ودون تمييز تسود الفوضى ويهلك الجميع " انما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا
اذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وان سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد "، وأبسط
الأمثلة تلك الخطوط التي تحدد حدود الملاعب الرياضية فهل يستطيع الحكم أن يقوم
بمهامه داخل المستطيل بدون هذه الخطوط والحدود، من هنا فلاحياة بدون حدود.
لماذا كان التفكير في وجود حدود بين الدول وما أهمية ذلك؟
ولماذا ستبقى ولن تزول؟
في البداية كان التفكير في وجود حدود لاستشعار النزعة
التوسعية في الدولة المجاورة أو الخوف من قوتها فبنيت الأسوار والقلاع أو لمنع
انتشار الأمراض من دولة لأخرى فوضعت على الحدود نقاط التفتيش والحجر الصحي وكذلك
لمنع تسلل المجرمين ،ولمنع حدوث تضارب بين المصالح الاقتصادية للدول نتجه للتفاوت
في المستوى الاقتصادي بينهما ، والحفاظ على الهوية الثقافية لكل دولة ، ومع مرور الزمان
سار بناء قلعة أو سور لحماية أي دولة رؤية ضيقة ومتخلفة بعد تطور أنظمة التسليح
الصاروخية والتي تخترق الاف الأميال في لحظات ،وبالتالي فهي تَحِد من التسلل البرى
فقط ، أما باقي الأسباب لوجودها فمازالت قائمة لذا فلن تزول الحدود!!
ولكن لماذا توجد حدود شبه وهمية بين بعض الدول الأوربية
وتستطيع أن تدخل للدولة الأخرى بمجرد أن تخطو خطوتين على الأرض بلا أسلاك أو
بوابات ألا يخشون من المجرمين أو نقل الأمراض أو التأثير على هويتهم الثقافية؟!
وهنا نقول أن
ذلك يتوقف على العلاقة بين الدولتين وتقارب الثقافات إضافة الى أن كل فرد يُحْكَم
بالقانون وهو يعلم قوة تطبيقه في حال المخالفة فلا واسطة ولامجاملات أما نحن في
وطننا العربي فلا نُحْكَم بالقرآن
ولابسلطان عادل ، فأحكامنا مختلطة بين قليل من الشريعة والكثير من قوانين الغرب
ودساتيرنا لا تعرف سوى ديمقراطية الأهواء التي تسمح لمن يتكلم بلغتنا أو برأينا
فقط أن يتكلمون فهم الأمناء وهم أهل الثقة والباقي خونة يجب أن يطردوا وتسلب
جنسيتهم أو يسجنوا ، أما القانون فهو مطاطي نطبقه عندما نريد أن نجرم معارضينا أو
نبرىء أنصارنا !! وهؤلاء الأمناء الوطنيين
الآن سنراهم -ولاتندهش - هم أنفسهم الخونة غدا!!
مشكلة الحدود ليست في الأسلاك الشائكة فاتفاقيات المصالح
الاقتصادية وتبادل المنافع تتخطى ذلك، وهي الأصل في الموضوع وليس الشعارات
والقوميات التي فشل بسببها اتحاد مصر وسوريا واتحاد وادي النيل بين مصر والسودان،
فقد انضمت بريطانيا للاتحاد الأوروبي حين وجدت مصلحتها في ذلك وبرغبة شعبها، وعادت
تقرر الانفصال باستفتاء، ورغبة شعبها أيضا ‘وفى النهاية لم تقاطعها تلك الدول ولم
يتبادلا السباب والشتائم كما نفعل نحن، بل عقدت الاجتماعات وتقررت الالتزامات التي
يجب ان تسددها، فهل نحترم رغبات شعوبنا كذلك؟! وهل نفعل ذلك في بلادنا؟!
مشكلة عالمنا العربي ثلاثية الابعاد الأول: التبعية، فوطننا
العربي بعضه أمريكي وبعضه روسي والآخر مختلط الانتماء، وكل حاكم يهتم بمُلْكِهِ
أولاً ثم شعبه الذي هو داخل حدود دولته، وكل الدول التي تتغنى ليل نهار بأن
الاستعمار القديم (البريطاني الفرنسي الإيطالي) هو السبب في تخلفها لهثت وراء
المستعمرين الجدد في أمريكا وروسيا وذيولهما الاتحاد الأوروبي!!
والثاني:
الصراع المجتمعي، بنظرة من الداخل سنجد بكل دولة تركيبات عرقية مختلفة وأجناس
مختلفة الأهواء من البشر وتركيبات واتجاهات دينية تتصارع وتحلم بحاكم قوى عادل
يساوى بين الجميع دون تمييز، وستجد إمكانيات بشرية واقتصادية هائلة لو تكاملت لصارت
قوة لا يقدر عليها أحد والجميع يعلم ذلك ولكن يخشى بعضنا بعضا!!
الثالث: ضعف الرؤية الشاملة للإدارة حتى داخل الدولة
الواحدة فتجد خلافات على الحدود حتى بين المحافظات!! فقد تجد الطريق السريع بين المحافظتين دون رصف
أو أنوار في جزء منه بسبب الحدود ومن منهما يتحمل ذلك من ميزانيته، وقد يطبق قانون
معين على بلد صغيرة داخل دولة كأن تكون منطقة حرة مثلا ويتمتع أهلها بمزايا معينة،
وتوضع الحدود ويُحْرَم من هو من محافظة أخرى داخل الدولة الكبيرة بل ويجرم ويسجن
لو لم يسدد رسوم معينة في الجمارك، وكذلك في أولويات الإسكان أو التعيين بالوظائف
في كل محافظة لأبنائها دون الآخرين مع أنهم جميعا أبناء نفس الدولة!!
وهكذا فأصل القضية في الحدود القاسية التي تضع الحواجز
النفسية داخلنا تجاه بعضنا البعض بأمر كل حاكم، أو تلك التي تقصم مشاعر الشعوب
التي من المفترض أنها أسرة واحدة، وتفرقها كتلك الأسرة التي قسمتها معاهدة السلام والتي
لم يهمني وقتها أن أعلم أهي مصرية أم فلسطينية ؟!، أو تلك الحدود القاسية التي
تصنف البشر دون الحقيقة فيكون حدود ائتمانك هو نطاق سلطتك وأموالك وتوافقك في
الرأي أو المذهب أو العقيدة ، أو تلك التي تركز على شعارات الوحدة والقومية
الجوفاء دون رؤية واقعية لشكل هذه الوحدة وشكل التكامل الاقتصادي ورغبات الشعوب
مما يجعلهم يختلفون ويتفرقون ويتناحرون حتى بسبب مباراة في كرة القدم !!
ومن هنا فقد خسرت الأجيال الماضية الرهان على القومية
العربية وتناثرت أحلامهم وذهبت كغثاء السيل، وقد يشاء الله أن نجد يوما وطنا بلا حدود
قاسية كانت أو حنون ، وحكاماً تقود الأمة فنتجاوز الأسلاك الشائكة وبوابات الحدود،
ولن نفقد الأمل وسنستمر في الحلم أيضا بلا حدود!!
تم نشر المقال على موقع مقال كلاود على الرابط:
https://www.makalcloud.com/post/qqmby5py7
وطن-حدود-مقالات-روائع-الفكر-عبده-عبد-الجواد
تم نشر المقال على موقع مقال كلاود على الرابط:
https://www.makalcloud.com/post/qqmby5py7
وطن-حدود-مقالات-روائع-الفكر-عبده-عبد-الجواد
تعليقات