"وفاء على الحائط !" -مقال

مقال: وفاء على الحائط!
  "وفاء على الحائط !"

مقال بقلم/ عبده عبد الجواد

مات أبى وأمي منذ سنوات ، ولم يكن هناك انترنت أو وسائل تواصل لأنعاهم من خلالها، بكى قلبى وأدمت عيونى من حرقة البكاء والفراق..كنت بجوارهم ولا أفارقهم خاصة حين مرضهم بل كانوا بين أحضاني فى لحظات مرضهم الأخير الذى تبعه الفراق، لذا كان نعيهم من داخلي بصدق، وكان نعى الآخرين لى مباشراً بلقاء الوجوه..لم أتشكك لحظة فى صدقهم ولم أكن أنتظر حتى مجاملتهم فالمُصاب جلل، وإحساس الغربة وتزلزل الأرض من تحت أقدامى يعصف بقلبى وكيانى، فلما جاءت وسائل التواصل بَعُدَتْ الوجوه وانعدم التواصل الحقيقى، وصارت الكلمات تلقى منا ومن الآخرين على حائط الأثير بلا نبض ولا حياة، هم بالفعل يطلقون عليه كذلك wall” فهل رأيتم من قبل حائطاً ينبض أو له قلب أو مشاعر حياة!

قَلَّبَ الآخرون صفحات ذاكرتهم وذكرياتهم ونعوا آباءهم وأمهاتهم الذى غادروا الحياة منذ سنوات طوال، وكأن لسان حالهم يقول:"نحن أوفياء ونذكرهم" وامتلأت الحوائط الصماء بكلمات ظنها الزملاء والغرباء والأصدقاء- وفاءً، فكيف وكل من يكتبون كلمات الإنشاء على التواصل يحملون اسم أصدقاء”friends”حتى زوجتك وأبنائك كالزملاء لقبهم "أصدقاء"!

امتلأت الحوائط بعلامات الاعجاب والقلوب الحمراء وقاموا بمشاركة الكلمات التى هى فى الأصل منقولة من كاتب عَبَّرَ فى لحظة صدق فبقى أثير صدقه ممتداً يأسر كل قارىء .

نُشِرَتْ الكلمات من ناقل إلى ناقل بينما ضاع صدق نبضها، الجميع معك على الصفحة يملؤون الجدران بكلمات الحب والود بينما الكل -فى البيت الواحد-غرباء!

جهزوا منشوراتهم التي تمدح آبائهم وأمهاتهم، وأنهم كانوا سندهم وظهرهم والحب والحنان الذي افتقدتوه للأبد.. فهل هذا ما يفرضه عليهم الواقع والموقف الآن أم أنهم صادقين؟!

عودوا بذاكرتكم لفترة حياة آبائكم، وحكموا ضمائركم فهل كانوا حال حياتهم محل اهتمامكم ، هل كنتم تطرقون أبوابهم وتحسنوا إليهم، هل كنتم تحترمون رغباتهم أم غركم تسامحهم معكم فاستمرإهمالكم وبُعْدكم، ألم تشغلكم حياتكم وأفكاركم ورغباتكم ولم تعيروا رغباتهم اهتماما ..كنتم تعلمون طيبتهم-أو سذاجة قلوبهم- فهم لن يدعون عليكم أو يشكون الى الله وحدتهم ولن يختصموكم عنده..فدائما ما كانوا يلتمسون لكم الأعذارلأعمالكم وحياتكم وعيالكم ويدعون بينما تتجمد دموعهم حين يسألهم أحد عنكم:"ربنا يعينهم الحياة صعبة"!

لم تكن طموحاتهم كبيرة.. فلم يطلبوا طرقكم لبابهم أو زيارتهم أو الانفاق عليهم وإن كان من حقوقهم.. كانوا يتوقون فقط لسماع صوتكم تطمئنون عليهم من هاتفكم الذي لا يفارق أيديكم ليل نهار!

أما عن دنيانا والبشر فاطمئنوا سيصدقون دموعكم يوم الفراق، وسيشاطرونكم الأحزان لساعات أو لأيام.. انشروا منشوراتكم واملؤوا صفحاتكم بما تكتبون أو تنقلون –تفيض بأقسى كلمات الحزن والأسى والحنان والوفاء المزعوم ستحصلون على أعلى علامات الحب والاعجاب فأغلب من يشاطرونكم مثلكم.. تعسا لوهم الحب ووهم الوفاء بعد الأوان!

فماذا تفيد باقات الورود على القبور وقد كانت ترضيهم في حياتهم زهرة، وماذا تفيد الكلمات الآن وقد غابت عن الآذان حال حياتهم حروف كلمة.. فهل أنتم صادقين أم هو التعايش مع لحظات الفراق كما يعيش الناس ويفرض الواقع..لا تغضبوا فالكثير منكم ينعى أحد والديه بحُبٍ مزعوم بينما يعيش الآخر ولا يطرق بابه!

اليوم أتجرأ لأول مرة فأنعى أمى وأبى وكل من مات من كبار عائلتى وأقاربى وأنسابى وأساتذتى وكل من علمنى يوما حرفاً، وأرسل كل باقات الحب والتقدير لكل من على قيد الحياة منهم وحتى آخر أنفاسى بالحياة، تجرأت لأول مرة بنعيهم وتقديرهم بوفاء-يعلمون صِدْقَه- من خلال الانترنت وعلى حائطه الذى قليلاً ما ينبض بوفاء الصادقين!    17-3-2021

#الوفاء_المزعوم

#روائع_الفكر

#عبده_عبد_الجواد                                         

  

تعليقات

‏قال Moussaoui abdelghani
الله يرحمهم ،ويرحم كل موتى المسلمين ...
مقال ثري و مميز يستحق التأمل حقا ..
فقد كثرت الجدران بأيامنا هته و صارت تنقل لنا كل ماهو متناقض ..
الكل يتحدث عن حب الوالدين بعد رحيلهم ..

ولا أحد كان يهتم لأمرهم وهم على قيد الحياة .
لقد اصبح الكل يكتب عن ما لا يعبر عنه أو يشبهه ..
الكل يحاول ان ينقل تلك الصورة الجميلة و المثالية عن نفسه عبر جدران وهمية لا يعبر فيها الإعجاب عن الإعجاب و لا الحب عن الحب كل شيء بارد فيها ..
تشبه تماما إدمان الوهم .
بالتوفيق بالمدونة أستاذنا الفاضل ..
مقال أنيق جدا ..
بالمناسبة لا تحتاج جدار لترثي او تنعي والديك
أترك كل شيء بقلبك ،هناك حيث ينبض كل شيء و كل حرف بصدق ..
لا تهتم لأحد غيرك ..حين تكون صادقا مع نفسك ،آراء الآخرين تبقى تفاصيل صغيرة غير مهمة اطلاقا..
استمتعت حقا ،رغم الحنين و الحزن المختبيء بين سطورك ..
دمت و دام الإبداع ..تحياتي
‏قال Unknown
جزيل الشكر اخى العزيز بالتأكيد زيارتكم وتعليقكم أثرى الموضوع
كل الشكر والتقدير لمتابعتكم القيمة