الفن حلال أم حرام ؟ مقال / د- مصطفى محمود

الفن أحد المواهب التي يتميز بها الإنسان، و هو مهارة ينفرد بها مثل الكلام و التفكير و حرية الاختيار، فهو المخلوق الوحيد الذي يتكلم و يفكر و يبدع.و الفن هو تجلي أحكام الأسماءالحسنى الإلهية ( الخالق و البديع و الحكيم و العليم ) في النفس الإنسانية التي جعلها الله بحكم كرمه قابلة لعطاء الحكمة و العلم و الخلق و الإبداع.. فكما تجلى ( السميع ) في سمع الإنسان، و( البصير ) في بصره.كذلك تجلى (البديع ) في  إبداعه.. و تجلى ( الخالق) فيما يخلق الإنسان من فنون، فالفنون كلها مهارات
 طبيعية نولد بها.. و هي بعض عطايا الله ونعمه.و لكن الإنسان الذي ولد حرا و مختارا و خطاء و متمردا لم يوظف تلك المهارة دائما في الخير، و إنما انحرف بها 
 أحيانا إلى الهوىوالغرض و الغواية، و إلى مجرد جلب الشهرة و الجاه و التأثير.. أحيانا بالنفع، و أحيانا بالضرر في الآخرين.
فالفن الذي يربي العواطف رأيناه في أكثر أفلام السينما يلعب بالعواطف و يلهو بالعقول، و الشعر الذي يسمو بالوجدان رأيناه في أكثر الأغاني يهبط بالوجدان ويسفل  بالمشاعر، و الموسيقى التي ترتفع بنا إلى آفاق الجمال و التأمل رأيناها 
تهبط بنا إلى الترقيص و حركات النسانيس. .! و قل أكثر من هذا في هزليات المسارح، و في الحوار البذيء و في المشاهد المسفة.. و في عروض أقرب إلى الأفعال الفاضحة في الطريق العام !و لأن الفن يدخل إلينا الآن خلسة من تحت الباب
 في الصحيفة اليومية و الكتاب، و يتسلل إلينا في غرفات النوم في التليفزيون  الكاسيت.. فقد تحول إلى وسيلة جهنمية في تشكيل الأجيال و في تربيتها أو إتلافها
وغسل مخها. و بهذا أصبح الفنان قادرا على أن يقتل و أن يضيع و أن يميت أمة، كما أنه قادر على أن يحييها و يبعثها.و لأن الفن سلاح قاتل، فلا يصح أن يكون حرا حرية
 مطلقة و حرية الفنان و حرية الفن دعاوى غير صحيحة، فالفنان حر مسئول محاسب ،و كحامل أي سلاح يمكن أن تسحب منه رخصة استعماله إذا أساء هذا الاستعمال.
و إذا كان الفنان يطالبنا بأن نحميه، فالجمهور القارئ و المشاهد - وهم بالملايين - لهم هم الآخرون حق الحماية من الإسفاف الذي يعرض عليهم.و كلمة فنان لا تعني العصمة من المساءلة، و لا تعني الحصانة، بل على العكس تعني المسئولية،و محكمة النقد و سيف الرقابة حماية ضرورية للمواطنين.و التليفزيون في حاجة إلى مجلس حكماء يمنع هذا السيل الهابط من الأفلام والعروض المبتذلة و الأغاني الساقطة و الحوار المسف و الرقص البذيء،وليس هذا كلاما في الدين ،وإنما في أوليات علم الاجتماع.أما الفنان الذي يسألني: هل ما أفعله حلال أم حرام؟ فأقول له: أنا لا أفتيك.. و لكن يفتيك قلبك.اسأل نفسك: هل ما تفعله نافع و مفيد للناس ؟ أم تراه ضارا بهم ؟!و ستعرف أين أنت. و لا مانع من أن يكسب الفنان و يزداد غنى، و لكن من طريق يجعل مشاهديه و قراءه يكسبون هم الآخرون و يزدادون به ثراء و غنى.أما الفنان الذي يهبط بقرائه و ينزل بمشاهديه، فإن ما يأخذه من مال لا يدخل في باب الكسب.. لكن في باب النشل ! و الذي يسأل: هل هناك فن رديء ؟وكيف يمكن أن يسمى فنا برغم رداءته؟أقول: بل هو فن ، لا يمتنع على الفن أن يكون رديئا لأن الفن مهارة و موهبة،والموهبة يمكن أن يوظفها صاحبها في الخير و يمكن أن يوظفها في الشروهي كالقوة العضلية وحدة البصر و حدة السمع و سرعة البديهة و الذكاء، وكلها مواهب أحيانا توظف للخير و أحيانا للجريمة.
و الفنان يمكن أن يكون شريرا، فيعبر عن شره في فنه ،ومن الأعمال الفنية العلمية ما يقطر تشاؤما، و منها ما يسيل حقدا، و منها ما ينبض بالعدوانية، و منها ما يحض على الفوضى، و منها ما يدعو إلى المادية والإلحاد والرفض والعدمية،و أصحاب هذه الأعمال فنانون عالميون من حملة النياشين و الجوائز،ولهم جاه وشهرة وجمهور ولهم يخوت و قصور.
و لكن هذا الفن السالب يدخل عند الله في باب الذنب.. و إن كان في ناموس الدنيا يدخل في باب الحسنات و يدخل أصحابه في باب العظماء !
و مقاييس الدنيا تخطئ أحيانا، و هي تتغير دائما و في جميع الأحوال.. فكم من ملايين المشيعين ساروا يبكون خلف جنازة ستالين..! و كم كتابا مجده و كم مقالة عظمته !
 وكم تمثالا ارتفع له ! و كم عملة ذهبية صكت باسمه ! ثم تغيرت المقاييس، فأصبح الممجد ملعونا، و المعظم مطرودا ! ولا ندري ماذا يجري غدا في العالم الذي يتغير فيه كل شيء ! و ما يجري في بورصة العظمة الفنية أعجب ! بالأمس بيعت لوحة للفنان فان جوخ بأربعين مليون دولار.. و في حياته كان يحاول أن يبيعها برغيفين فلا يجد مشتريا ! و بيكاسو مات في قمة مجد فني، و لا ندري بعد مائة سنة ماذا يقول الفنانون أنفسهم في تراثه الفني !أغلب الظن أن معظم أعماله سوف تدخل في باب العبث و التجارب العبثية.
ويظل هناك مقياس لا يخطئ و لا يخيب لكل أعمال الإنسان – فنية كانت أو فكرية أو فلسفية أو سياسية أو اجتماعية -هو المقياس الذي جاء به القرآن" فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض " الرعد -17
فالفن الخير البناء هو الذي سيبقى لصاحبه، وهو الذي سيغدو له حسنة في الدنيا
وحسنة في الآخرة. أما الفن الضار و الهدام والهابط، فهو الخسارة والبوار،مهما جلب لصاحبه من ثراء و مال و مجد دنيوي، و مهما حمل له في قبره من جوائز و أوسمة و نياشين.و كم من فنون هي في النهاية مجرد لهو و قتل للوقت و مضيعة للعمر! وكم من أشعار عظيمة السبك و هي مع ذلك غزل في المذكر،أو مدح لحاكم، أو هجاء موتور، أو زهو مغرور، أو تأله فارغ !
  وهي فن متألق،وكلمات تخلب اللب.. ولكنها في الآخرة أوزار يتمنى صاحبها لو لم ينطق بها، ووصمة يتمنى لو يبرأ منها !.

تعليقات