قصص قصيرة


الطريق كما هو- نفس الطريق .. طريق الجامعة سرت فيه لسنوات حتى تخرجت وحصلت على البكالوريوس
 أو كما كانت تسميها امى وجارتنا فى دعائهما لى " الشهادة الكبيرة" وجاورت تلك الشهادة ماسبقها من شهادات مدرسية أدراج مكتبى.. تشهد بتفوقى والتزامى بالعهد مع أبى .
وصرت خلف عجلة القيادة لتاكسى أو عملى الحالى (المؤقت) لحين أجد العمل المناسب.. هذا ماأقترحته على أبى حين فاجأنى يوما بظرف به آلاف من الجنيهات وقال:" لقد وفيت بوعدك وتخرجت بتفوق وأنت ابنى الكبير ، وأنا لم أعد أرجو من الحياة شيئاً .. لقد بعت منزلا قديما ورثته عن أمى هو كل ماأملك ..لو عشت سأعوض أخوتك عن حقهم فيه ، واذا مت فتولى أمرهم وساعدهم عوضا عنى وكُنْ لهم الأب والأخ "
لمحت عيونهما من مرآتى يتهامسان.. شاب وفتاة يركبان معى لتوصيلهما للجامعة ..ابتسامات الأمل والحب تنبعث من عيونهما بينما صوت عبد الوهاب يطغى على صوتهما فلا أسمعه " وكل ده وانت مش دارى .. ياناسينى وأنا جنبك " .. كانت نظراتهما المتبادلة وكلماتهما التى لاأسمعهما تعكس اندماجهما مع كلمات الأغنية.
كان وجه الشاب ورفيقته مألوفا بالنسبة لى .. ربما ركبا معى من قبل فطريقى هو الجامعة كل يوم .
- انتبهت فجاة على صوت الشاب : " لماذا دائما فى الموقف ينادونك بالأستاذ.. هو انت مدرس؟"..
قلت: " لا .. مهندس!" تغير وجهه هو ورفيقته ..
-عاد يسأل :" يعنى انت خريج الكلية التى نذهب إليها كل يوم ؟ ..
قلت: "هو انتم فى كلية هندسة ؟" .. أومأ برأسه بأَسَىَ ، وعَمّنَا الصمت!
كان لابد لى ان أختار لقد وضع أبى كل ثروته فى يدى وخيّرنى .. "هذه مكافأتك .. تصرف فيها كما تشاء.."
وبقيت أياماً حائراً بين طلب حبيبتى التى باغتتنى بضرورة الاسراع بالتقدم لها لأن أهلها يفرضون عليها شخصاً تقدم لخطبتها ، وبين شعورى بأن أبى أودعنى أمانة .. فقد فرح لتخرجى بتفوق وأعطانى كل مايملك .. وقد أحيل للمعاش من وظيفته ،ولم يعد يمتلك سوى معاشه ..ماذا لو خطبتها بهذه الجنيهات .. وماذا بعد؟ 
كيف سيكتمل الزواج ؟ ..هى لايمكنها الانتظار، وأنا لايمكننى التفكير فى نفسى فقط ..!
كانت كلمات أبى اللحظة الفارقة فى حياتى ..أحبها .. نعم، وعيونها التى تملأ نظراتها خيالى كتلك الحالمة التى أراها فى مرآتى ، وصوتها الهامس وكأننى أسمعه ..أما أنا فنظرات عيونى وأفكارى الآن ليست كذلك العاشق الذى أراه فى مرآتى ،يوما ما كنت مثله ..لطالما سِرْنا معا ًفى هذا الطريق.. لطالما ضمتنا أسوار الجامعة .. وأشجار حديقتها المحفور عليها حروف أسمائنا وسط القلوب المتعانقة .. مازلت أذكر يوم عاتبتنى نظراتها .. كيف تكتب حرفاً واحداً فقط ؟ قلت: "انه نفس الحرف الذى يبدأ به اسمينا ويضمنا فلماذا نُفّرِقُهُ ونُكّرره ..ألسنا شيئاً واحداً..حرفا واحداً.. قلبا واحداً "!
 - باغتنى الشاب بالسؤال " لماذا تعمل سائقاً هل بحثت عن عمل ولم تجد ؟"..
فكرت قليلا.. حاولت التخلى عن صراحتى المؤلمة .. قلت: "مؤكد يوجد عمل ولكنى لم أعثر على مكان مناسب.. هى فترة مؤقتة"!
واكتفيت بتلك الاجابة المقتضبة لأبعث الأمل فى نفسه....وبقيت مرآتى قاسمنا المشترك أراقب عيونه القلقة -فقد شعربأننى أطمئنه على غير الحقيقة ،وظل يراقب عيونى الهاربة من استمرار الحديث!
هربت بعيونى وحديثى وأفكارى الى داخلى ..دقائق .. انتهى الطريق ..غادرا سيارتى ،وذهبا الى الجامعة
بينما استمر حديث ذاتى .. لقد تزوجت حبيبتى.. وبعد سنوات مات أبى ثم أمى وكبرت أخوتى .. انطوت السنوات سريعاً وصارالواقع (المؤقت) واقعاً دائماً،ولم أجد وظيفة حيث جميع اعلانات الشركات يطلبون سنوات خبرة !
وصرت لأخوتى الأب والأخ،وصارت آلام الواقع أمراً اعتياديا وأتحمله ،واستمر تفوقى فى صراعى مع الأيام ومع ذاتى- بالصبر والالتزام بأخلاقى التى تربيت عليها فاستمر المنادى فى المحطة يلقبنى " بالاستاذ" ،وبعض الركاب المبالغون فى الاحترام ينادوننى : ياباشمهندس .. بينما كان وقعها فى اذنى مثل: "ياأسطى" .. لافرق!
وبقيت همسات دعائى أقتسمها بين والديىّ بالرحمة ، ولنفسى أن يعيننى على حالى ويعوضنى، ولحبيبتى بالسعادة
وبقيت كلمات رسالة لم أرسلها إليها ولا الورود ، فقد ذبلت ورودى وبقيت حروف رسالتى " لقد تصارع عقلى وقلبى ، ولكل صراع ضحايا.. أنا قبلكِ أول الضحايا.. تفرقنا ولم تتفرق أرواحنا، وتناثرت حروفنا ولم يُقّدَر لنا ولها أن تسمو فوق السحاب" .
*********************
تأخرت أمي مع أقاربنا داخل المحل، لقد خَرَجْت وهم يدفعون الحساب وهكذا انا لاأحب الانتظار، وأكثر كلمات امى ترددا على سمعى:"أهدأى قليلا.. انتظرى، لاتتعجلى" وخرجت انتظرخروجهم !
أُسْدِلَتْ ستائر الغروب على الوجود، ونامت الشمس في مخدعها انتظاراً لنهارها الجديد واستيقظ القمر منتشيا يخطو بنوره في احدى ليالي عٌرسِه في النصف الثاني من الشهر الهجري.
وسط الزحام لَمَحْت عيونه ترمقنى بنظرات قلقة بينما ينظر للقمر بين الحين والآخر.. تُرى ماذا يريد هذا الشاب؟ يلفت نظري اهتمامه.. وجدت نفسي أرفع وجهي للسماء ..حقا القمر جميل!!
ذكرنى بالسنة الأولى فى الجامعة حين فاجأنى أحد الزملاء بوريقة داخل كشكول محاضراتى ،وقال: هذه بعض الخواطر أحب أسمع رأيك فيها..كان شخصا رقيقاً وكانت زميلاتى يصفوه ب "عاشق القمر" والزملاء يمزحون" مداح القمر" وكان ذلك من كثرة كتابته وحديثه عن القمر .."يامن ترون الحب فى عيونى وشوقى وجنونى.. مازالت العيون تحتفظ بملامحه والنبض يعزف بعروقى والقلب يَصْدُق والأيدي تتعاهد، وورودي أهديها لحبيبي.. تأملوا وجهه ، رقته ، خطواته ..ستجدون القمر ونُضْرَة البشر ".. تلك كلماته التى قرأتها يوما ولم أفهم أو لعلى فهمت ولم أعرف ماذا أفعل ؟! وبَعُدَ عنى وابتعد غيره أيضا- ولم أفهم لماذا ؟!، ومرت السنوات وصمتت الضحكات ، ومر عامان على انتهاء الجامعة ،وجَلَسْتُ فى منزلى كغيرى أنتظر الوظيفة وابن الحلال !
تنبهت.. لا أدرى لِمَ نظراته بين الحين والآخر تُشعرني وكأنه يعرفني.. أفكر في الاقتراب منه.. لا.. ما هذه الجرأة.. مستحيل!! يحرك في هذا الشاب أفكاراً كثيرة..هذه أول مرة أراه.. ربما طاردني من قبل؟؟ هل يحبني؟؟ هل؟ أنا مغرورة حقا ؟ ما الذي يعجبه في؟ مظهري..جمالي..لاأريد شخصا يحبني لهذه الأشياء.. لطالما حدث معي هذا الموقف.. الكثيرون يعجبون بجمالي وعندما يقتربون منى، يبتعدون.. ولسان حالهم يقول: مغرورة، تافهة ،ولاأجد فى نفسى اختلافا عن صديقاتى، واهتماماتنا – التى ليس من بينها العلم والسياسة وأحوال المجتمع ونشرات الأخبار!
الشوارع صاخبة تعج بأصوات أناس ذاهبين وآتين يتحدثون بالفاظ وكلمات لم أفهمهاعن الحياة والأسعارعن الفساد والرياضة والمسلسلات و..و..أراقب تحركهم بين السيارات بلامبالاة وإحتماءً في كثرتهم.. أمسكت رأسى ..شعرت أننى أريد أن أسال عن كل شىء!! فعلا كان زميلى القديم محقا لطالما أعطاني كتباً لم أقرأها، وقال كلمات لم أسمعها.. كان يحدثني في نواحي كثيرة في الحياة، مثل تلك التي أسمعها من السائرين !
بان على وجهه القلق الشديد وكان ينظر في ساعته ثم رمقني بنظرة أخرى.. سرحت بفكري.. أترى ينتظرني أم لا؟.. لابد أن أتغير سأقترب من هذا الشخص، سأعطيه الفرصة ليعبر عما يجول داخله، سأسمع له دون سخرية.. سأتعلم منه.. ما المانع.. فدائما كانت أمي تقول عن أبى
: " انه زوجي وأستاذي الذي أتعلم منه الحياة".. ملامحه تدل على أنه لايكبرنى بسنوات كثيرة ومقبول والأهم من ذلك أننى لَفّت نظره .. نعم فنظراته ترمقنى اعجابا  وأمى دائما ًتقول لأختي الكبرى التي ترفض كل من يتقدم لها:" ياابنتى ليس هناك مشكلة طالما فرق السن لم يتجاوز عشر سنوات.. فانتم من جيل واحد.. اختارى الذي يحبك طالما كان هناك قبول فحتما سيأتي حبك له سريعا مع الأيام "، شعرت بكلمات أمى التى-لطالما رفضتها أيام الجامعة -مقبولة لنفسى..!
ماالذى تغير؟ أشعر وكأن قدمي تتحرك تجاهه.. أقترب منه.. هو حتما يطاردني من فترة وربما لم أنتبه لذلك سوى اليوم.. ربما يحبني.. سأبدأ الخطوة الأولى في تكوين شخصيتي الجديدة.. لابد أن أستفيد من تجربة أمي وحياة أختي الخاوية من المشاعر.لابد..هممت بالاقتراب..سار فجأة تجاهى
، ولم تكن حركته من أجلى ! .. لقد حضرت فتاته الجميلة ..صافحها بشوق شديد  ..!
اقتربْت منهما صرت خلفهما.. سمعته يقول بلهفة :" لم تأخرت هكذا؟ انتظرتك كثيرا " !
غرقت في بحور خجلي ، أتوارى حتى -عن ضوء القمر،هَرْوَلْت أبحث عن أمي داخل المحل ، بينما صوت ذكرى خواطرى القديمة يعلو أصوات السائرين ويتردد بأذني: " تأملوا وجه حبيبى ،رقته، خطواته .. سترون القمر ونُضْرَة البشر ".

*********************
 
يرتجف قلبى إليها ، وعيونها الشاردة تزيد مشاعرى تخبطا ،أتجمد ، يجف حلقى..أتلعثم ، ولاأجد الحروف وتضيع الكلمات .. أبحث.. أتفقد خلجات نفسى..أجد حروفا متناثرة عبثا أحاول تنسيقها..تتناثر أحلامى عبر الرياح العاتية .. تتعالى الصرخات فى أذنى .. لاأدرى أصراخ الرياح أم أنين نفسى .. تدمع عيناى..أستشعر تساقطها على خدودى.. دموع .. لا..لا..لِمَ أتيتِ ؟؟ لِمَ الآن بالتحديد؟ .. لحظتى هذه يامحطمتى لاتحتاج سوى أن تلفظك .. لحظتى تحتاج قوتى وليس دموعى وضعفى .. كلماتى دون همسى..حديثى دون صمتى.. زمانى الصاخب يصرخ  يعترف لى بحقيقتى على لسان جدرانى، أرضى وسمائى..لِمَ جِئتَ فى الحياة على هذه الصورة الباهتة ؟! لِمَ جئت طاهراً كالملائكة فى زمن خلود  الشياطين؟! لِمَ جئت شفافاً رقيقاً فى زمن العنف والقسوة؟! لِمَ..لِمَ ؟!
صَرَخْت بصوت مكبوت..ماذا أفعل؟ هكذا خُلِقت .. فأى إنسان ذاك الذى أصنعه فى ذاتى.؟! هل يمكن أن تنصهر ذاتى وتُصَب فى قالب جديد ؟! وبينما ملأت نفسى أنات صراعى .
وإلتقت أعيننا ، رمقتنى عيونها الشاردة بنظرة حانية ..لاأصدق نفسى توقفت  ..تُرَى هل تشعر بى..
ملأت عينى دمعتى ..أزحتها بعنف حاولت قتلها ..صَرَخَت صرختها الأخيرة..أمهلنى لحظة بعدها سأفارقك ..لقد حاولت ربط حلقات الكلمات داخلك.. تمنيت أن أكون رفيقتك.. مزَّقْتُ أوصال حديثها..لا..لن تكونين رفيقتى ، ولن يكون حديثى من خلالك فأنتِ دليل انهزامى وضعفى .. أخرجت منديلى وصرعتها بقسوة..خَفَتَ صوت صراعى، عُدْتُ من جديد لعينيها ، أبحث عن حروفى وكلماتى ، بقايا الصراع تطاردنى، أهرب من شبح ضعفى، تأسر ذاتى أحاسيس يائسة..ليس زمن الهمس ..ليس زمن الرقة.. لن تسمع حديث قلبك لابد أن تتكلم..لن تدرك ما بداخلك إن لم تُصَّرِح وتَصرُخ.. لن..لن!
شعرت وكأننى أنصهر.. قاومت صورة قاتمة جديدة تعتري خيالى ، ازداد تناثر حروفى وتاهت كلماتى فى خلجات نفسى ، ازداد غليان عروقى ، لم أدرك هل نطق لسانى أم لا؟  إختلط حديث ذاتى.. تردد السؤال على لسانى أو ربما بلسان وجدانى .. لاأدرى .. "أتشعرين بى؟  أتدرين من  تكونين لى ؟..إنكِ الحياة بجمالها وخيالها بحلمها وسحرها .. إنكِ ! 
" لاحقتنى.. غمرتنى ، وشعرت وكأن الحياة قد أُخْتُزِلَتْ فى نظرتها الحانية.. ارتجفت شفتاى .. تلعثم لسانى.. وشعرت بذاتى تنصهر لتشكل إنساناً جديداً ، بينما كانت شفتاها تنطق برجفة .." إ.. إ نى..إنى أحبك"

*********************

تعانقت أكفنا بعهد جديد ..إحساسٌ قوىٌ يساورنى بأننا سنفرح والحلم الجميل داخلى- وقد بدأ يتلمس طريقه- يملأنى شعوراً بالحقيقة .. ضَغَطَتْ برفق على أناملى .. رَفَعَتْ وجهى .. هَمَسَت :" لاتذهب بعيدا وتنسنى " .. تأملت عيونها .. حركنى بريقها.. لامستحيل ..هذا الأفق الذى يبدو هناك من خلال زجاج نافذة السيارة ، وينطبق من هناك على الأرض سيظلان هكذا أبد الدهر ، وهكذا أنا وأنت .. عهدٌ وَثَقَتهُ قلوبنا ، وقَدَرٌننتظرأن يبشرنا .. عُدْتُ ببصرى بسرعة إليها .. كانت تنتظرنى..تحركت السيارة بينما كانت أمى تجلس بجوار السائق فى وجوم  .
التقت أعيننا من جديد .. ابتسمت .. ليتك تسمعين نبضى .. بادلتنى الابتسامة .. لابد أنها تشعر بى .. تساءلت :
" هل تثق فى كلام الرجل الذى حدثك عن الشقة " ؟.. "نعم بالطبع "..امتدت يدى تعبث بالجرائد الموضوعة على ساقينا..
" عظيم .. أرأيتِ.. لقد خصصت الجريدة اليوم جزءاً للعروسة " .. انغمست بكل حواسى داخل الكلمات.. الديكور
كيفية تنسيق الأثاث حسب مساحة الشقة .. توزيع الاضاءة ، وضع النجف والأباجورات .. عودة موضة الابليكات الصغيرة فى الأركان .. "رحم الله ابى .. كان دائما يقول: كل شيء فى الدنيا له موسم .. الدنيا مواسم ! " ..
 كنت لاأفهم معنى كلماته فى حينها، وأما الآن وقد تخليت عن بلاهة طفولتى صرت أفهم ، وليتنى مافهمت !
انغمست مرة اخرى وسط الكلمات " الضوء غير المباشر يضفى الهدوء فى المنزل .." أترين هذه الصفحات .. فساتين الزفاف .. مارأيك فى هذا ؟ ..الله جميل .. وهذا .. انه أجمل وأجمل ..الحقيقة الاختيار صعب جدا !
كنت أقلب الصفحات وأرقب بطريقة غير مباشرة ملامح وجهها .. شعرت به وقد رسمت عليه بعض علامات القلق،
 فقد كنت أتحدث وكأننى أحدث نفسى بينما كانت تومىء برأسها فقط .. قلبت الصفحة ..عنوان كبير يتوسط الصفحة
" الحمل وعاداتنا " .. تجولت بعينى سريعا بين السطور .. شعرت بالضيق من العادات البالية .. الآباء ينتظرون الأحفاد ليرونهم قبل الموت وكأنه يدق أبوابهم !! .. بل ان الحمل والانجاب هو المؤشر الحقيقى لاكتمال معالم الرجولة والأنوثة لدى الطرفين ، بل ودليل السعادة ..!
قلبت الصفحة وجدت مقالا عن الشقة وفشل الزواج .. حاولت أن أواريها بسرعة .. لاحَظَتْ .. فرمقتنى بنظرة خاطفة .. "لِمَ قلبت الصفحة بسرعة ولم تقرأ ؟ " قلت : " لاأريد ان أقرأ قصص فشل " .. قالت: الفشل يصنع النجاح ..قلت :
" ويصنع الدمار أيضا " .. قالت: " ولم لانقرأ ونتعرف على الأسباب ؟ " .. قلت : " اننى أعتبر الطرفين هما الأساس .. ثقة كل منهما بالاخر فى اختياره .. وفى حبه " .. توقف المناقشة !
دفعنا الفضول لقراءة المقال حتى آخره والذى أختتم كاتبه بدعوة كل شاب بالتخلص من قيود التقاليد والبقاء بجوار أهله والخروج وبناء مسكنه بنفسه فى مشروع متكامل يشترك فيه كل شاب بتخصصه  ،  وتمر سنوات الضجر والانتظار كسنوات كفاح وبناء وعزيمة .. انها الأفكار الورقية الحالمة ممن لايشعرون كيف يكون ألم الانتظار ! ..
انقضى الطريق .. دعوت السائق لانتظارنا .. حاولت من داخلى الخروج من كهوف اليأس .. سألت عن الرجل .. دخلت الشقة لم تكن مثل الوصف ولم يعجبنى نظامها .. لاحقتنى الأفكار .. تناسيت عدم اقتناعى .. تناقشنا بخصوص المبلغ المطلوب .. كان خرافيا أضعاف إمكانياتى .. انصرفنا !!
تملكنا طريق العودة .. شعرت أننى كنت أحلم أو على هامش الحقيقة .. فلم أراها من قبل مثلما أراها الآن .. أمسكت بالجريدة .. تجولت بعينى بين الموضوعات .. الأثاث .. الديكور .. الانجاب .. الحلول المقترحة على الأوراق !!
طويت الجريدة بعنف .. تذكرت كلمات أمى قبل أن أتقدم لخطبتها : " الموضوع يحتاج امكانيات ..البنت جميلة ولن تنتظرك طويلا والمشكلة ليست فى مجرد الخطوبة .. بل الشقة والأثاث ، هل ستؤجر شقة مفروشة ؟!"
يومها رددت بتحدى : " حتما ستنتظرنى لأنها تحبنى "
قالت :" لاأ ظن أن أهلها سينتظرون ".. قلت: " وماذا يفعل إذاً من يحب ؟"
قالت : " يضحى من أجل حبيبته ويتركها طالما لايمتلك الامكانيات ! "
قلت بمرارة: " ان اصحاب الامكانيات لايتزوجون مايحبون بل مايريدون " !
قالت: " يابنى لاتظلمها معك فأنتم متساوون فى السن لذا فالمشكلة أكبر"
قلت : " حين أحببتها لم أفكر فى السن ، هذه أحاسيس تأتى فجاة ولايمكن أن نحددها بحدود قبل أن تبدأ" .
قالت :" انت حر، والعاقل من يمتلك زمام أمره " !
يومها توقف الكلام على لسانى ، ولم أشعرلحظة أننى حر .. فمرور الأيام يقيدنى .. نظرات الجيران تقيدنى .. آلام وآمال أمى -وهى لاتستطيع مساعدتى بمعاش أبى المتواضع ،ودخلى من وظيفتى كموظف جديد - تقيدنى..انتظار أهلها يقيدنى..حتى نظرات عيون حبيبتى -اذا تَغَيَرَتْ أو تَأَلَمَتْ لحظة - تقيدنى وأظن نفسى السبب !
 مزقت جريدتى .. نثرتها من النافذة .. تألمت .. شعرت بيديها تعانق يديى .. اطمأننت ..شعرت وكأن قيودى تطير مع الأوراق المتناثرة .. ابتسمت لى .. همست فى أذنى بنفس كلماتها الرقيقة- يوم رويت لها حوارى مع أمى وتركت لها الاختيار -وانسابت كلماتها كنسمات من بين شفتيها : " أحبك وسأنتظرك " .. أوثقنا عهداً جديداً .. التفت لزجاج النافذة .. عَكَسَ الضوء صورة وجهها أمامى .. تأملتها للحظات .. وجدت تاجاً على شعرها .. وجدتها عروسة فى بدلة الزفاف .. التفت إليها .. غمرنى الأمل رغم أن الصورة الأصلية - كانت بلا تاج !

********************

مضى الزمان وتقلبت أوراقه سريعاً بسنواتٍ كثيرة، وبقي الصندوق.. صندوق ذكرياتي الذي يحتوي على قصاصات أوراقى وقصصى وأشعارى وخطابات الأصدقاء والأحباب  
أوراق كانت يوما ذات قيمة ومعنى، وكل كلمة أو خاطرة سُطِّرت عليها كانت بفكر عميق ونبضات وجدان، ووحي جميل لم يُقَدره وقتها سوى أصدقائي وأحبابي المقربين، واليوم وبعد كل هذا العمر والحرص على بقاء هذه الأوراق داخل صندوقي حتى لا تندثر.. اكتست أوراقى رغم أنفى باللون الأصفر وذبل اخضرارها وبهاءها، ولم يعد يذكرها ولايذكرنى أحد، وصرت وأنا صاحب الكلمات كلما أمسكتها واستعدت الذكريات.. أقرأ.. فأشعر وكأنني غريب عنها وهي صارت غريبة عنى.. فتلك كلمات تصف العيون قد ذهبت، وتلك تصف أحاسيس قد انزوت، وتلك صحيفة عملت بها يوما حيث انتفض الناس يوما لحادثة هرولت سريعا لتغطيتها، واليوم قد نسيت، وهذه خواطر تتحدث عن مواقف مع أصدقاء وقد غمرت صداقتهم هموم الحياة فاختفت.. و. و.!
أتأمل صندوق العمر وقد حرصت على أن يظل معي، وينتقل من بيت أسرتي الى بيتي الجديد، وعندما يراه صغاري ويسألون: ما هذا ياأبى؟! أرانى أتلعثم وأعجز أن أقول شيئاً، وعندما أحاول أن أتكلم:" إنها اوراق قديمة كتبتها كانت يوما تتنفس بأنفاسى وتنبض بنبضى واستطرد في كلماتي و.و. وأنتبه فلاأجد من يسمعني!! فقد انصرف الصغار ولم يفهمون ومن قبلهم الكبار فى بيتي القديم والجديد واعتبروها "كراكيب".. ذلك اللفظ الذي يطلق على أشياء ليس لها قيمة تساوى المكان الذي تشغله في المنزل!
قَلَّبت أوراقى الصفراء التى يعلوها التراب فوجدتها قد طمست بعض الكلمات فى ثناياها من آثار السنين، أتامل الكلمات المطموسة عبثا أحاول أن أتذكرها لكي أعيد نقلها في أوراق جديدة.. لاأتذكر |.. أمسك هاتفي.. أطلب أصدقائى وأحبابي القدامى لعلهم يذكرون، فاذا الأرقام تغيرت ويرد أناس لا أعرفهم ولايعرفوننى!
يرن فى أذني صوت خطيب الجمعة:" كل مذكورٍ سيُنْسى ".. أتذكر صوت أمى: " كراكيب" صوت زوجتى: " كراكيب" نظرات الصغار البلهاء حيث لايوجد شيء لديهم يساوى شيئا!
تنبهت على صوت ميكروفون مزعج يأتى من الشارع " نشترى الحاجات القديمة.. أى حاجة قديمة للبيع ! "
وجدتنى أحتضن صندوق ذكرياتى وأوراقى وأنا أكاد أتخيله فى الغد بين أحضان المنادى ، وبعد أن غاب صاحب الصندوق وتلاقت رغبات الجميع على التخلص من كل الكراكيب ، وكأننى لم أعش يوما فى الحياة ولم يكن لى وجود .. فقد اختفت من منزلى كل آثارى..ملابسى.. نظارتى الطبية .. حذائى..أوراقى وأقلامى!
قتلنى شعورى القديم " حينما يمر الزمان على الأشياء ، فلا شىء يساوى شيئاً !"
انهمرت دموعى بينما أكاد أرى البائعون يفرحون بجنيهات زهيدة لم يكن من بينها أى قيمة لصندوقى القديم !

******************

تعليقات